توجهت هذه السرية إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية.
فدومة الجندل ـ التي سميت السرية باسمها ـ قريبة من حدود الشام، وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواصلته للدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته إلى الناس كافة. .
وكانت مهمة هذه السرية ذات شقين: مهمة دعوية ومهمة حربية، لذلك كان أميرها عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ الذي تربى على الإسلام من أول ظهوره.
وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الرعيل الأول، وأحد الدعائم الكبرى للدعوة الإسلامية منذ دخوله فيها على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه ـ . .
وعن هذه السرية حدثنا عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: " دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الرحمن بن عوف فقال: (تجَّهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أو من غد إن شاء الله) . . قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي الغداة فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. .
قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر وعمر وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن: (ما خلفك عن أصحابك؟ ! ) .
قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السَحَر فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعليَّ ثياب سفري. . قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه. .
قال ابن عمر: فدعاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: (هكذا فاعتم يا ابن عوف) ، قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (اغزُ باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا) .
قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أول ما قدم أن يعطوه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي.
وكان نصرانيا وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبره بذلك وبعث رجلا من جهينة يقال له: رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ".
وذكر الواقدي وابن سعد أن هذه السرية كانت في شعبان سنة ست من الهجرة.
وقد ظهر في هذه السرية حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، وشفقته عليهم، وتواضعه معهم، حيث ألبس عبد الرحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا الحب والتواضع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفع من معنويات أصحابه وجنده، ويدفعهم إلى بذل المزيد من الجهد في سبيل خدمة هذا الدين، لأن التلاحم والمودة بين القائد وجنوده، من أهم عوامل نجاح الدعوة والعمل وتحقيق الأهداف.
كما ظهرت حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في توجيهه لعبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ للزواج من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل ـ ، وقويت الروابط بين أهل دومة الجندل وبين دولة الإسلام في المدينة بسبب هذه المصاهرة.
ومن الحِكًم والدروس الهامة من هذه السرية المباركة إعلان لمباديء الإسلام السامية في الجهاد والقتال ضد أعدائه، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا جهز جيشاً أو سرية، أمَّر عليهم أميراً وأمره بدعوة الناس إلى الله والدخول في الإسلام، فإن أبَوْا ذلك، دعاهم إلى الخضوع العام لنظام الإسلام وأحكامه وأداء الجزية، فإن أبوا، قوتلوا.
ورغم كون الجهاد والقتال عملية تزهق فيها الأرواح وتجرح الأبدان، ويقصد فيها إلحاق أنواع الأذى بالأعداء، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع لأمته آدابا يتحلون بها في جهادهم وحروبهم مع أعدائهم، ومن ثم أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الرحمن بن عوف قائلا: (اغزُ باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغل، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا) .
ومن وصايا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحاديثه في ذلك:
حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله، اغزوا و لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا) (مسلم) . .
وعن أبي موسى ـ رضي لله عنه ـ قال: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) (مسلم) . .
لقد كانت وستظل سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مر العصور يؤخذ منها الدروس والعبر في السلم والحرب وفي الحياة كلها، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
المصدر: موقع إسلام ويب